الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وحكى الفخر عن المعتزلة اعتبار الموافاة على الكفر، وانظر ما تقدم في قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} في سورة البقرة (217).والمعنى: أنهم لا تنفعهم قرباتهم ولا جهادهم.وجملة و{كان ذلك على الله يسيرًا} خبر مستعمل في لازمه وهو تحقيرهم وأن الله لمَّا أخرجهم من حظيرة الإسلام فأحبط أعمالهم لم يعبأ بهم ولا عَدّ ذلك ثلمة في جماعة المسلمين.وكان المنافقون يُدلون بإظهار الإيمان ويحسبون أن المسلمين يعتزون بهم، قال تعالى: {يَمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنُّوا عليّ إسلامكم بل الله يمُنُّ عليكم أن هَداكم للإيمان إن كنتم صادقين} [الحجرات: 17].{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا}.لما ذُكر حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض من فتنتهم في المسلمين وإذا هم حين مجيء جنود الأحزاب وحين زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ثُني عنان الكلام الآن إلى حالهم حين أنعم الله على المسلمين بانكشاف جنود الأحزاب عنهم، فأفاد بأن انكشاف الأحزاب حصل على حين غفلة من المنافقين فلذلك كانوا يشتدّون في ملام المسلمين ويسلقُونَهم بألسنة حدَادٍ على أن تَعرضوا للعدوّ الكثير، وكان الله ساعتئذ قد هزم الأحزاب فانصرفوا وكفى الله المؤمنين شرهم، وليس للمنافقين وساطة في ذلك.ولعلهم كانوا لا يودّون رجوع الأحزاب دون أن يأخذوا المدينة، فتكون جملة {يحسبون} استئنافًا ابتدائيًا مرتبطًا بقوله: {اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحًا} [الأحزاب: 9]. إلخ.جاء عوْدًا على بدْءٍ بمناسبة ذكر أحوال المنافقين، فإن قوله: {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} يؤذن بانهزام الأحزاب ورجوعهم على أعقابهم، أي: وقع ذلك ولم يشعر به المنافقون.ويجوز أن يكون المعنى: أنهم كانوا يسلقون المؤمنين اعتزازًا بالأحزاب لأن الأحزاب حلفاء لقريظة وكان المنافقون أخلاّء لليهود فكان سلقُهم المسلمين في وقت ذهاب الأحزاب وهم لا يعلمون ذلك ولو علموه لخفَّضوا من شدتهم على المسلمين، فتكون جملة {يحسبون} حالًا من ضمير الرفع في {سلقوكم} [الأحزاب: 19] أي: فعلوا ذلك حاسبين الأحزاب محيطين بالمدينة ومعتزين بهم فظهرت خيبتهم فيما قدروا.وأما قوله: {وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب} فهو وصف لجبن المنافقين، أي: لو جاء الأحزاب كَرَّة أخرى لأخذ المنافقون حيطتهم فخرجوا إلى البادية بين الأعراب القاطنين حول المدينة وهم غفار وأسلَمُ وغيرهم، قال تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومَن حولهم من الأعراب} [التوبة: 120] الآية.والوُدّ هنا مستعمل كناية عن السعي لحصول الشيء المودود لأن الشيء المحبوب لا يمنع من تحصيله إلا مانع قاهر فهو لازم للودّ.والبادي: ساكن البادية.وتقدم عند قوله تعالى: {سواءٌ العاكفُ فيه والباد} في سورة الحج (25).والأعراب: هم سكان البوادي بالأصالة، أي: يودُّوا الالتحاق بمنازل الأعراب ما لم يعجزوا لما دل عليه قوله عقبه {ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلًا} أي: فلو لم يستطيعوا ذلك فكانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلًا.و{لو} حرف يفيد التمني بعد فعل ودّ ونحوه.أنشد الجاحظ وعبد القاهر:
وتقدم عند قوله تعالى: {يودّ أحدُهم لو يُعَمَّر ألف سنة} في سورة البقرة (96).والسؤال عن الأنباء لقصد التجسس على المسلمين للمشركين وليسرّهم ما عسى أن يلحق المسلمين من الهزيمة.ومعنى {ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلًا} أنهم إذا فرض أن لا يتمكنوا من الخروج إلى البادية وبقُوا في المدينة مع المسلمين ما قاتلوا مع المسلمين إلا قتالًا قليلًا، أي: ضعيفًا لا يُؤْبَه به، وإنما هو تعلة ورياء، وتقدم نظيره آنفًا.والأنباء: جمع نبأ وهو: الخبر المهم، وتقدم عند قوله تعالى: {ولقد جاءك من نبأ المرسلين} في سورة (الأنعام 34) وقرأ الجمهور {يسألون} بسكون السين فهمزة مضارع سأل.وقرأ رويس عن يعقوب {يَسَّاءلون} بفتح السين مشددة وألف بعدها الهمزة مضارع تساءل، وأصله: يتساءلون أدغمت التاء في السين. اهـ.
وآخر يرى للبخيل فضلًا عليه، فيقول: نعم، البخيل خفيف على النفس؛ لأنه لم يَجُدْ عليك بشيء يأسرك به، ولم يستعبدك في يوم من الأيام بالإحسان إليك، فهو خفيف على نفسك؛ لأنك لستَ مدينًا له بشيء.وهذا على حَدّ قول الشاعر: فالبخل وإنْ كان مذمومًا، فقد ركزه الله في بعض الطباع ليعين التضاد، ومعنى يعين التضاد أن البخل مقابله الكرم، والبخيل يعاون الكريم على أداء مهمته، فالكريم عادة إيده سايبه، ينفق هنا وهناك حتى ينفد ما معه، ومن أهل الكرم مَنْ يلجأ إلى أنْ يبيع أرضه أو بيته في سبيل كرمه، فمَنْ يشتري منه إذن إذا لم يكُنْ هناك مَنْ يكنز المال ويبخل به؟إذن: لو نظرتَ إلى كل شيء في الوجود تجد له مهمة، حتى إنْ كان مذمومًا، ثم إن البخيل كثيرًا ما يكون ظريفًا لا يخلو مجلسه من ظُرْفه، فقد كنا في بواكير شبابنا نشرب السجائر، فكان الواحد منا يُخرج علبة السجائر يوزعها على الحاضرين، وربما لا تكفي واحدة فأخرج الأخرى، وكان في مجلسنا واحد من هؤلاء، فنظر إليَّ في غَيْظ وقال يا قلبك يا أخي.وقد كانت هذه السجائر سببًا في أننا جُرْنا على شبابنا، فكان لها أثر بالغ علينا في الكبَر، فليحْم الشباب شبابهم ولا يدمروه بمثل هذه الخبائث المحرمة.ثم يقول سبحانه: {فَإذَا جَاءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} [الأحزاب: 19] أي: في ساعة الفزع، يأخذ الفزع أبصارهم، فينظرون هنا وهناك، لا تستقر أبصارهم، ولا تسكن إلى شيء، زاغتْ أبصارهم {كالذي يغشى عَلَيْه منَ الموت} [الأحزاب: 19].ومن ذلك الخبر: «إنكم لتكثرون عند الفزع، وتَقلُّون عند الطمع».كان هذا حالهم عند الخوف والفزع {فَإذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بأَلْسنَةٍ حدَادٍ} [الأحزاب: 19] معنى {سَلَقُوكُمْ} [الأحزاب: 19] آلموكم وآذوكم بألسنتهم، وقالوا لكم: أعطونا حقنا، فقد حاربنا معكم، ولولا نحن ما انتصرتُمْ على عدوكم، إلى غير ذلك من التطاول بالقول والإيذاء والتأنيب.وهذا كله من معاني السلق ومنه: سلق اللحم ونحوه، وهو أنْ يغلي في الماء دون أنْ تضيف إليه شيئًا، ومثله السلخ، فكلها معانٍ تلتقي في الإيلام.وعادةً ما تجد في اللغة إذا اشترك اللفظان في حرفين، واختلفا في الثالث تجد أن لهما معنى عامًا يجمعهما كما في سلق وسلخ، وفي: قطف، وقطر، وقطم. وكلها تلتقي في الانفصال.وقوله تعالى: {بأَلْسنَةٍ حدَادٍ} [الأحزاب: 19] حداد يعني: حادة فصيحة بملء الفم، كما في قوله تعالى: {فَبَصَرُكَ اليوم حَديدٌ} [ق: 22].ومعنى {أَشحَّةً عَلَى الخير} [الأحزاب: 19] بعد أنْ قال: {أَشحَّةً عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 19] أكدَّ هذا المعنى بقوله: {أَشحَّةً عَلَى الخير} [الأحزاب: 19] أي: في عمومه.{أولئك لَمْ يُؤْمنُوا} [الأحزاب: 19] لأنهم لو آمنوا لَعلموا أن الشحَّ، شُحَّ عليهم هم، وليس في صالحهم؛ لأن الكريم يستزيد من الله العطاء، أما الشحيح فليس له زيادة؛ لذلك يقول تعالى: {هاأنتم هؤلاء تُدْعَوْنَ لتُنفقُوا في سَبيل الله فَمنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسه} [محمد: 38].وربك حين يراك تنفق مما أعطاك يزيدك؛ لأنك مؤتمن على الرزق؛ لذلك يقول أحد الصالحين: اللهم إنك عوّدتني خيرًا، وعوَّدْتُ خلقك خيرًا، فلا تقطع ما عوَّدتني حتى لا أقطع عن الناس ما عوَّدتهم. إذن: فالعطاء استدرار لنعمة الله، وسبب للمزيد منها.
|